I . في مفهوم الحداثة
1. الإطار المكاني والزماني
قبل الغوص في الحديث عن مفهوم الحداثة
لا بد أولا من الوقوف عن إطارها المكاني والزماني، والوقوف عن أهم المحطات
التاريخية التي صاحبتها تحولات بنيوية مست المجتمع بشكل عام.
لكن، ليس من السهل الفصل
زمنيا بين ما يسمى بالعصور الوسطى و العصر الحديث في أوربـا، على الرغم من تداخل
العصرين فإنّ أغلب المؤرخين يميزون بينهما انطلاقاً من حوادث تاريخية مهمة كسقوط
القسطنطينية سنة 1453م، واكتشاف القارة الأمريكية سـنة 1492م.[1]
على هذا الأساس يمكن تحديد العصور الوسطى زمنيا من
بداية القرن الرابع للميلاد إلى غايـة القرن الخامس عشر للميلاد ،وهي فترة زمنية
طويلـة يقـسمها المؤرخـون إلى ثـلاث مراحل، فمرحلتها الأولى التي استغرقت سبعة
قرون تميزت بالفوضى والتخلّف إنهـا المرحلـة المظلمة في التاريخ الأوربي ، ثمّ
أعقبتها المرحلة الثانية (1000- م 1300م) وأهم ما يميز هـذه
المرحلة "الحروب الصليبية الاستعمارية التي شنتها أوربا الغربية بزعامة
البابوية علـى المـشرق العربي الإسلامي . كذلك نما فيها و رسخ النظام الإقطاعي
ونظام الفروسية . وفي القرن الحادي عشر بدأ الفكر الأوربي ينطلق من عقاله، محاولا
الخروج من دائرة الجمود الفكري المغلقة الـتي عاش أسيراً فيها قروناً عديدة [2]" ، و لقد
واجهت الكنيسة البابوية هذا الفكر المتحـرر الجديـد بشدة واتهمت أصحابه بالسحر و
الهرطقة ، ذلك إذ رأت فيه خطراً يهدد
كيانها و يـشجع المواطنين على الخروج عن
تعاليمها . في المرحلة الأخيرة من العصور الوسطى (1300- م 1500 و هي الـتي
سـبقت عـصر النهضة - شهدت أوربا تطورا ملحوظا في أغلب مجالات الحياة وعرفت هذه المرحلة بدايـة زوال النظام الإقطاعي
بعد التحول الكبير الذي عرفه الاقتصاد نتيجة اكتشاف القارة الأمريكية والهند
والصين وظهور المدن الصناعية – التجارية ، في المجال السياسي تحولت نظرة الـشعوب
الأوربية إلى الملك من زعيم إقطاعي إلى رئيس دولة وظهـرت البرلمانـات لانتـشار
الفكـر الديمقراطي، أما في الجانب الديني فقد خاضت الكنيسة البابوية صراعا مع
الأمراء و الملوك من أجل تمكين السلطة الدينية من السيطرة على السلطة الدنيوية ،
هذا الصراع وما نـتج عنـه انعكس سلبا على مكانة الكنيسة في قلوب الناس ، وتعرضت
إلى الهجوم العلني مـن طـرف المفكّرين، الذين اجتهدوا في ترسيخ المفاهيم العلمية
الجديدة والتي ساعد في انتشارها اختـراع الطباعة وتزايد الجامعات في المدن الكبرى،
كل هذه التحولات التي عرفتها المجتمعات الأوربية سوف تمهد لعصر جديد هو ما سوف
يسمى بعصر النهضة.
سيعرف عصر النهضة بدوره تحولات كبيرة وعدة حركات
إصلاحية، من بينها حركة الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوثر، والنزعة الانسية أو
الانسانوية، والحركة الثالثة والأخير وهي النزعة العقلانية، هذه التحولات الفكرية
الجذرية هي ما يمكن أن نسميه القاعدة الأساسية التي انطلق منها الفكر الحداثي،
والذي سيتجلى في الفترة الزمنية الموالية، وهي ما اتفق على تسميتها بعصر التنوير
أو عصر الأنوار، والذي يمتد من ق17 الى ق18.[3]
التحولات التي عرفتها أوربا خلال عصر النهضة
والتنوير سيتوج بثورتين مهمتين، الثورة الصناعية ببريطانيا والثورة الفرنسية
"ومجموع هذه التحولات، في تعالقها وتفاعلها، هو الذي شرع بالتدريج أفق
الحداثة".[4]
2. مفهوم الحداثة بين الفكر الغربي والعربي
قبل التطرق الى مفاهيم الحداثة في الفكر الغربي
والفكر العربي، لا بأس من تسليط الضوء على أهم المصطلحات المتداولة في فكر الحداثة
لإزالة بعض الالتباس في استعمالاتها العربية، وهي moderne, modern,
modernisme…، وما يمكن ملاحظته أن هناك شبه اجماع على أن كلمة
"حديث" هي الترجمة العربية لمصطلح (modern)، من الصعب جدا
تحديد الفترة الزمنية التي ظهـرت فيهـا كلمـة "حديث ، " لكن أغلب
التوجهات تشير إلى أن بداية تداولها كان في القرن الـسادس عـشر للميلاد في اللغتين
الانجليزية و الفرنسية وهناك من يشير إلى القرن الرابع عـشر للمـيلاد
والكلمة
مستقاة من ظرف الزمان اللاتيني modo بمعنى توا ، في بداية ظهور المصطلح كان الغرض من استخدامه التمييز بين فترتين
زمنيتين وفي نفس الوقت "للتعبير عن الاعتراض على ما هو قديم والذي كان يميز
بين العصور اليونانية والرومانية القديمة"[5]، وقد تطور مفهوم الحداثة
ليعبر بذلك عن مختلف جوانب التطور والتقدم الذي حصل بأروبا في فترة معينة، وبالطبع، حملت الحداثة الغربية وعد خلاص
الإنسان عن طريق سعيها إلى تحريره من الخوف من طريق نبوءتها بتحرير العقل وإخضاع
الطبيعة والسيطرة عليها، فقد كان ينظر إلى الحداثة على أنها تمثل القفزة الكبرى
إلى الأمام بعيداً من ذلك الخوف، إلى زمن تنتهي فيه المفاجآت والأوهام وأنماط
الحياة الطفيلية، زمن خال من كل شيء ينتج عنه الخوف.[6]، أما في الثقافة العربية
فمفهوم الحداثة ما زال يحمل طابعا زئبقيا، حيث يراه المسيرى من أهم الظواهر التى
أنتجتها الحضارة الغربية والتى تعكس تحيزاتها، وتبدأ مرحلة الحداثة عنده من نهاية
الحرب العالمية الأولى حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين. ويعرفها المسيرى على
أنها تبنى العِلم والتكنولوجيا والعقل كآليات وحيدة للتعامل مع الواقع. وهو يشير
إلى أن أهم خصائص الحداثة الغربية تتلخص فى أن المادة هي أساس الفكر ومصدر المعنى
والقيمة، وفى أن التكنولوجيا العلمية، هي التي تمثل معيار القيمة وتعمل على
السيطرة على الطبيعة. ومن خلال هذه الحداثة الغربية يتم النظر إلى الغرب على أنه
مركز الكون ولا معنى للإنسانية من دونه. من هنا يرى المسيرى أن الحداثة الغربية
تمثل منظومة إمبريالية داروينية تحكمها العقلانية المادية في إطار منظومة ثُنائية
الإنسان والطبيعة، حيث يكون الإنسان المتأله، أي الذى يجعل نفسه مركز الكون
والطبيعة. لذا نقد المسيرى الحداثة الغربية نقدا لاذعا، ووقف ضد مقولاتها موقف
المُهاجِم لها، حيث أشار إلى أن أهم مقولات هذه الحداثة الغربية يتمثل فى:
العقلانية.[7]
II الحداثة والتحديث
اختلط مفهوما الحداثة والتحديث في الثقافة العربية
المعاصرة، سواء لدى الأنظمة السياسية أم لدى المتعلمين والمثقفين والناس العاديين،
ولم ينج من تداخل المفهومين في أذهانهم سوى فئة قليلة من النخبة والأكاديميين،
وكادا يتوحدان في ثقافة العديد من الشرائح الثقافية والاجتماعية وقد اعتقد البعض
أن التحديث هو الحداثة، وعليه فقد وصلت هذه الحداثة حسب رأيه إلى مجتمعاتنا
العربية، وها نحن نتطور بثبات وعلى وشك امتلاك ناصية الحداثة والمجتمع الحديث
والدولة الحديثة، ولابد أن تنضج حداثتنا وتأخذ أبعادها الفلسفية والاقتصادية
والاجتماعية والسياسية والقومية وغيرها.
بادئ ذي بدء ينبغي التفريق بين التحديث والحداثة،
فالتحديث هو الأخذ بالتطور العلمي والتقني، وإشادة البنية التحتية للمجتمع حسب
معطيات هذا التطور وفي مختلف جوانب الحياة العمرانية، وأنماط الاستهلاك والعيش
والمواصلات والاتصالات، وأدوات وأساليب الرفاه، وغيرها من المنتجات والمخترعات
التي وصلت إليها البشرية، وتكاد مجتمعات العالم تتشابه من حيث بنية التحديث وإطاره
العام، والفرق بينها هو في الواقع فرق بدرجة التحديث من جهة وبأن بعضها صانع
للتحديث وبعضها الآخر مطبق له وناقل ومقلد من جهة أخرى.
أما الحداثة فهي أمر مختلف كلياً عن التحديث، لأنها
تهتم بالجوانب الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية القائمة في المجتمعات
ومفاهيمها، فقد قدمت الحداثة مفاهيم جديدة في الفلسفة، وشددت على تبني العقلانية
وتفعيل العقل، وعلى العلمانية، وأحدثت قفزة فكرية شديدة الأهمية في تاريخ الفكر
الإنساني، وحققت ثورة سياسية من خلال تبنيها أسساً جديدة للدولة الحديثة كمفاهيم
الحرية والمساواة والديمقراطية، وقبل ذلك تأكيد مفهوم الفرد الحر (الفردانية)
إضافة إلى إصلاح الخطاب الديني ونقد التراث.
وقد نقلت الحداثة العالم، حسب قول أحد الفلاسفة (من
الزراعة إلى الصناعة، ومن الإقطاعية إلى الدولة القومية، ومن الاستبداد إلى
الديمقراطية، ومن تهميش الفرد إلى المبالغة في سلطته.
وفي ضوء هذا نلاحظ فرقاً شاسعاً بين اصطلاحي
الحداثة والتحديث، ولعل كون التحديث ابناً شرعياً للحداثة، وتابعاً إلزامياً لها،
ونتيجة من نتائج مفاعيلها في المجتمعات الحديثة، جعل معظم الناس بمن فيهم بعض
المثقفين يخلطون بين المفهومين ويلتبس عليهم الفرق بينهما.
وباختصار نقول : تتعلق الحداثة بفكر الإنسان
ومفاهيمه وبنية الدولة، ومرحلة التطور الاقتصادي الاجتماعي والتطور السياسي أيضاً،
بينما يعبر التحديث عن نفسه بالتطبيقات العلمية والتقنية والمخترعات، ووسائل
الاستعمال اليومي وما يشبهها.
يلاحظ الدارسون للحداثة ونشوئها وتاريخها أمرين:
أولهما أن تطورها كان بطيئاً، فقد احتاجت إلى ثلاثة قرون حتى بلغت مرحلة النضوج،
من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، وعلى هذا فهي ليست قراراً سياسياً، أو
نظرية فيلسوف، أو برنامج نخبة، وإنما واقع تاريخي، وتطور شامل اجتماعي اقتصادي،
ويرى بعض الفلاسفة فيها تجربة تاريخية مريرة عرفتها المجتمعات، ومفهوماً ينتمي لكل
الأزمان، لأن لكل عصر حداثته، والأمر الثاني هو أن الحداثة التي تعيشها المجتمعات
المعاصرة هي من منتجات النهضة الأوروبية، فقد كانت هذه النهضة ومعها عصر التنوير
مدخلاً لها ومحرضاً عليها.
لكنها مع ذلك ليست مفهوماً أوروبياً أو حكراً على
التطور الأوروبي أو على عصر النهضة فهي لا وطن لها، وليس لها نموذج واحد، فلكل عصر
حداثته، وكلما فعّلنا العقلانية والتنوير والديمقراطية وانتقلنا من عالم الخرافات
إلى عالم العقل ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، كلما اقتربنا من الإمساك بتلابيب
الحداثة.
لقد تعثرت مشاريع الحداثة في البلدان العربية وربما
فشلت جميعها، وذلك لأسباب عديدة موضوعية أو مصطنعة، منها أن بعض المثقفين العرب
اعتبروا أن الحداثة مستوردة فقد أتت مع المستعمرين والغزاة
الأوروبيين، الذين مارسوها على حقيقتها في بلادهم ومارسوا عكسها في البلدان
المستعمرة، فلم يحترموا الحريات والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوق
الإنسان عامة.
.ولذلك كان التحزب للحداثة لدى أبناء البلدان
المستعمرة كأنه تحزب للاستعمار، فضلاً عن إشكالية مفاهيم العلمانية واعتبارها لدى
بعض الشرائح الاجتماعية نوعاً من أنواع الإلحاد، واعتقاد البعض الآخر أن إصلاح
الخطاب الديني هو ردة على الدين برمته، وأن نقد التراث يعني القطع معه واتخاذ موقف
عدمي منه، في الوقت الذي شوهت بعض الأنظمة السياسية العربية مفاهيم الحداثة.
ورفضت ممارستها أو تطبيقها، وأشاعت مفاهيم جديدة
بدلاً عنها، وحاولت استبدال التحديث بها، وإقناع الناس أن التحديث هو الحداثة
وبالتالي فلا ينقص تطورنا شيء.
الملاحظ أن البحوث المتعلقة بالحداثة وإشكالياتها
وفشلها في البلدان العريبة هي بحوث قليلة وربما نادرة قياساً لما يجب أن تكون
عليه، فلم تشغل الحداثة جدياً لا النخبة ولا المثقفين بشكل عام ولا حتى الفلاسفة
منهم، ولولا اهتمام بعض المثقفين العرب والمغاربة خاصة بإعداد دراسات عن الحداثة
عامة، والحداثة العربية بشكل خاص، لكان مخزوننا الثقافي عنها فقيراً إلى حد
الإدقاع.
وأخيراً ينبغي أن نتذكر أن كثيراً من مجتمعات
الدنيا تعيش مرحلة ما بعد الحداثة، بينما ما زالت مجتمعاتنا العربية تعيش مرحلة ما
قبلها، فهي لم تحقق نهضتها بعد، فكيف بحداثتها.[8]
[1] . فارح مسرحي، الحداثة في فكر محمد اركون،
منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2006، ص26.
[2] . نعيم فرح، الحضارة الأوربية في العصور
الوسطى، منشورات جامعة دمشق، سوريا، ط2، 2000، ص ص 12-13
[3] . بتصرف
[4] . برتراند رسل، حكمة الفلسفة الحديثة
والمعاصرة، ج2، ص149.
[5] . محمد نور
الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس،
أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1998، 108.
[6] . زيجمونت
باومان: الخوف السائل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم
هبة رؤوف عزت، الطبعة الأولي، بيروت، 2017 ص 11
[7] . مقال نشر
بمنصة الشروق، مفهوم الحداثة ونقدها عند عبد الوهاب المسيري، 2017.
[8] . حسين
العودات، مقال بعنوان "الحداثة والتحديث"، منصة البيان، 10/7/2010.

تعليقات
إرسال تعليق